فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}.
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته.
ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق.
والإيثار: التفضيل.
وتقدّم في قوله تعالى: {لقد آثرك الله علينا} في سورة يوسف (91).
والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى، وبذلك يلتئم عطف {والذي فَطَرنا}، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر {الذي فطرنا عن ما جَاءَنَا مِنَ البينات} لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله، ولأنّ فيه تعريضًا بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله: {فَاقْضضِ مَا أنتَ قَاضٍ} مستعملة في التسوية، لأن {ما أنت قاض} مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلببِ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه، فلا نطلب منك خلاصًا منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.
وانتصب {هذه الحياة} على النيابة عن المفعول فيه، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، فهو قصر حقيقيّ.
وجملة {إنَّا آمَنَّا بِرَبنا} في محلّ العلّة لما تضمنه كلامهم.
ومعنى {وما أكْرَهْتَنَا عليْهِ مِنَ السِّحْرِ} أنه أكرههم على تحدّيهم موسى بسحرهم فعلموا أن فعلهم باطل وخطيئة لأنّه استعمل لإبطال إلهيّة الله، فبذلك كان مستوجبًا طلب المغفرة.
وجملة {والله خَيْرٌ وأبقى} في موضع الحال، أو معترضة في آخر الكلام للتذييل.
والمعنى: أنّ الله خير لنا بأن نؤثره منك، والمراد: رضى الله، وهو أبقى منك، أي جزاؤه في الخير والشرّ أبقى من جزائك فلا يهولنا قولك {ولتعلمن أينا أشد عذابًا وأبقى} [طه: 71]، فذلك مقابلة لوعيده مقابلة تامة.
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)}.
هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصّة خروج بني إسرائيل، ساقها الله موعظة وتأييدًا لمقالة المؤمنين من قوم فرعون.
وقيل: هي من كلام أولئك المؤمنين.
ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصّة.
والمجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية والفعل الخبيث.
والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر، كقوله تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} [المطففين: 29].
واللام في {لَهُ جَهَنَّمَ} لامُ الاستحقاق، أي هو صائر إليها لا محالة، ويكون عذابه متجدّدًا فيها؛ فلا هو ميت لأنّه يُحِس بالعذاب ولا هو حيّ لأنه في حَالةٍ الموتُ أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام.
وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت، وهو كقول عبّاس بن مرداس:
وقد كنتُ في الحرب ذَا تُدْرَإٍ ** فلم أُعْطَ شيئًا ولم أُمنع

وليس هذا من قبيل قوله: {إنها بقرة لا فارض ولا بكر} [البقرة: 68] ولا قوله: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} [النور: 35].
وأما خلود غير الكافرين في النّار من أهل الكبائر فإن قوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} جعلها غير مشمولة لهذه الآية.
ولها أدلّة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي.
ونازَعَنَا فيها المعتزلة والخوارج.
وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {فأولئك لهم الدرجات} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسمَ الإشارة.
وتقدم معنى {عَدْن} وتفسير {تجري من تحتها الأنهار} في قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة (72).
والتزكّي: التطهر من المعاصي. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}.
الإيثار: تفضيل شيء على شيء في مجال متساوٍ تقول: آثرتُ فلانًا على فلان، وهما في منزلة واحدة، أو أن معك شيئًا ليس معك غيره، ثم جاءك فقير فآثرْتَهُ على نفسك.
ومنه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
فقولهم: {لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا} [طه: 72] لأنه قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وأبقى} [طه: 71] أنا أمْ موسى؟ فالمعركة في نظره مع موسى، فأرادوا أنْ يُواجهوه بهذه الحقيقة التي اتضحتْ لهم جميعًا، وهي أن المعركة ليستْ مع موسى، بل مع آيات الله البينات التي أُرسِل بها موسى، ولن نُفضّلك على آيات الله التي جاءتْنا واضحة بيِّنة.
ولما رأى السحرة معجزة العصا كانوا هم أكثَر القوم إيمانًا، وقد وَضُحَ عُمْق إيمانهم لما قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] ولم يقولوا: آمنا بموسى وهارون، إذن: فإيمانهم صحيح صادق من أول وَهْلة.
وقد تعرضنا لهذه المسألة في قصة سليمان مع ملكة سبأ، حين قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] فأنا وهو مسلمان لله، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فهناك رب أعلى، الجميع مُسلِّم له.
إذن: فقوْل السَّحَرة لفرعون: {لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا} [طه: 72] تعبير دقيق وواعٍ وحكيم لا تلحظ فيه ذاتية موسى إنما تلحظُ البينة التي جاء بها موسى من الله.
لذلك يقول تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} [البينة: 1] ثم يُبين عند منْ جاءت البينة: {رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البينة: 2].
فالارتقاء من الرسول إلى البينة إلى مَنْ أعطى له البينة، فهذه مراحل ثلاث.
والبينات، هي الأمور الواضحة التي تحسم كل جَدَلٍ حولها، فلا تقبل الجدل والمهاترات؛ لأن حجتها جليّة واضحة.
وقولهم: {والذي فَطَرَنَا} [طه: 72] أي: ولن نُؤثرك أيضًا على الله الذي فطرنا، أو تكون {والذي فَطَرَنَا} [طه: 72] قسم على ما يقولون، كما تقول: لن أفعل كذا والذي خلقك، فأنت تُقسِم ألاَّ تفعل هذا الشيء.
وهذه حيثية عدم الرجوع فيما قالوه وهو الإيمان بربِّ هارون وموسى.
ثم لم يَفُتْهم الإشارة إلى مسألة التهديدات الفرعونية: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71].
لذلك يقولون: {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} [طه: 72] أي: نفَّذ ما حكمتَ به من تقطيع الأيدي والأرجل، أو أقْضِ ما أنت قاض من أمور أخرى، وافعل ما تريد فلم تعُدْ تخيفنا هذه التهديدات {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} [طه: 72].
فأنت إنسان يمكن أن تموتَ في أي وقت، فما تقضي إلا مُدَّة حياتك، وربما يأتي من بعدك مَنْ هو أفضل منك فلا يدّعي ما ادَّعيْته من الألوهية.
وهَبْ أن مَنْ جاء بعدك كان على شاكلتك، فحياته أيضًا منتهية، وحتى لو ظَلَّ ما سننته للناس من ادعاء الألوهية إلى يوم القيامة، وامتدّ طغيان غيرك من بعدك، فالمسألة ستنتهي، ولو حتى بقيام الساعة.
كما سبق أن قُلْنا: إن نعيم الدنيا مهما بلغ فيتهدده أمران: إما أن تفوته أو يفوتك، أما نعيم الآخرة فنعيم بَاقٍ دائم، لا تفوته ولا يفوتك.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} فما دُمْنا رجعنا من الإيمان بالبشر إلى الإيمان بخالق البشر، فهذا رُشْدٌ في تفكيرنا لا يصح أنْ تلومنَا عليه، ثم أوضحوا حيثية إيمانهم {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 73] فالإيمان بالله سينفعنا، وسيغفر لنا الخطايا وهي كثيرة، وسيغفر لنا ما أكرهتنا عليه من مسألة السحر، فقد صنعوا السحر مُكْرهين، ومارسوه مُجْبرين، فهو عمل لا يوافق طبيعتهم ولا تكوينهم ولا فطرتهم.
وما أكثر ما يُكْره الناس على أمور لا يرضونها، وينفذون أوامر وهم غير مقتنعين بها، خاصة في عصور الطُّغَاة والجبّارين، وقد سمعنا كثيرًا عن السَّجانين في المعتقلات، فكان بعضهم تأتيه الأوامر بتعذيب فلان، فلماذا يفعل وهو يعلم أنه بريء مظلوم، ولا يطاوعه قلبه في تعذيبه، فكان يدخل على المسجون ويقول له: اصرخ بأعلى صوتك، ويُمثِّل أنه يضربه.
ثم يقولون: {والله خَيْرٌ وأبقى} [طه: 73] فأنت ستزول، بل دنياك كلها ستزول بمَنْ جاء بعدك من الطُّغَاة، ولن يبقى إلا الله، وهو سبحانه يُمتِّع كل خَلْقه بالأسباب في الدنيا، أما في الآخرة فلن يعيشوا بالأسباب. إنما بالمسبب عز وجل دون أسباب.
لذلك إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك، وهذا نعيم الآخرة، ولن تصل إليه حضارات الدنيا مهما بلغتْ من التطور.
لذلك في قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24]، فمهما ظَنَّ البشر أنهم قادرون على كل شيء في دُنْياهم فهم ضُعفاء لا يستطيعون الحفاظ على ما توصّلوا إليه.
إذن: اجعل الله تبارك وتعالى في بالك دائمًا يكُنْ لك عِوَضًا عن فائت، واستح أنْ يطلع عليك وأنت تعصيه. وقد ورد في الحديث القدسي: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟!».
ولما سُئل أحد العارفين: فيم أفنيتَ عمرك؟ قال: في أربعة أشياء: علمتُ أنِّي لا أخلو من نظر الله تعالى طَرْفة عَيْن، فاستحييتُ أن أعصيه، وعلمتُّ أنَّ لي رِزْقًا لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أن عليَّ دينًا لا يُؤدِّيه عنِّي غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أن لي أَجَلًا يبادرني فبادرته.
وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع، فقال: اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه.
وهكذا جمعتْ هذه الأقوالُ الثمانية الدينَ كله.
ثم يُقدِّم السحرة الذين أعلنوا إيمانهم حيثيات هذا الإيمان، فقالوا: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا}.
قوله: {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] يعني مُجرِّمًا عمل الجريمة، والجريمة أنْ تكسر قانونًا من قوانين الحق عز وجل كما يفعل البشر في قوانينهم، فيضعون عقوبة لمَنْ يخرج عن هذه القوانين، لكن ينبغي أن تُعيِّن هذه الجريمة وتُعلَن على الناس، فإذا ما وقع أحد في الجريمة فقد أعذر من أنذر.
إذن: لا يمكن أن تعاقب إلا بجريمة، ولا توجد جريمة إلا بنص.
وقوله: {يَأْتِ} أي: هو الذي سيأتي رغم إجرامه، ورغم ما ينتظره من العذاب. لكن لماذا خاطبوه بلفظ الإجرام؟ لأنه قال: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] ولم يفعلوا أكثر من أنْ قالوا كلمة الحق، فأيُّنا إذنْ المجرم؟
وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] لأن الموت سَيُريحهم من العذاب؛ لذلك يتمنَّوْنَ الموت، كما جاء في قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيأتي رده {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
وفَرْقٌ بين عذاب وموت، فالموت إنهاء للحياة، وليس بعد الموت إيلام، أمَّا العذاب فلا ينشأ إلا مع الحياة؛ لأنه إيلام حَيٍّ.
لذلك، فالحق تبارك وتعالى لما عرض لهذه المسألة في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وأن سليمان قال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] فالعذاب شيء، والذبح شيء آخر؛ لأنه إنهاء للحياة الحاسة.
ومعنى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] أن هناك مرحلة وحلقة بين الموت والحياة، حيث لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياةً سالمة من العذاب، فبقاؤهم في جهنم في هذه المرحلة، التي لا هي موت ولا هي حياة.